فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بأن أرسل عليهم ريحًا وجنودًا حتى رجعوا ورجعت بنو قُريظة إلى صياصيهم؛ فكفى أمَر قريظة بالرعب.
{وَكَانَ الله قَويًّا} أمره {عَزيزًا} لا يُغلَب.
قوله تعالى: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مّنْ أَهْل الكتاب} يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشًا وغَطَفان؛ وهم بنو قُريظة.
وقد مضى خبرهم.
{من صَيَاصيهمْ} أي حصونهم؛ واحدها صيصَة.
قال الشاعر:
فأصبحت الثّيران صَرْعَى وأصبحتْ ** نساء تميم يبتدرْن الصياصيا

ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يُسوّى السَّداة واللُّحْمة: صيصة.
قال دريدُ بن الصّمَّة:
فجئتُ إليه والرماحُ تَنُوشُه ** كوقع الصَّياصي في النسيج الممدّد

ومنه: صيصَة الديك التي في رجله.
وصَياصي البقر قرونها؛ لأنها تمتنع بها.
وربما كانت تركّب في الرماح مكان الأسنة؛ ويقال: جَذّ اللَّهُ صئْصئه؛ أي أصله.
{وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرعب فَريقًا تَقْتُلُونَ} وهم الرجال.
{وَتَأْسرُونَ فَريقًا} وهم النساء والذّرّية؛ على ما تقدّم.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَديَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا} بعدُ.
قال يزيد بن رُومان وابن زيد ومقاتل: يعني حُنَين؛ ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها.
وقال قتادة: كنا نتحدّث أنها مكة.
وقال الحسن: هي فارس والرّوم.
وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
{وَكَانَ الله على كُلّ شَيْءٍ قَديرًا} فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفوٍ قديرٌ؛ قاله محمد بن إسحاق.
الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقُرَى قدير؛ قاله النقاش.
وقيل: {وَكَانَ الله على كُلّ شَيْءٍ} مما وَعَدَكُمُوه {قَديرًا} لا تردّ قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى.
ويقال: تأسرون وتأسُرون بكسر السين وضمها حكاه الفراء. اهـ.

.قال أبو السعود:

قولُه تعالى: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُوا}.
رجوعٌ إلى حكاية بقية القصَّة وتفصيلُ تتمة النّعمة المشار إليها إجمالًا بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} معطوفٌ إمَّا على المضمر المقدَّر قبل قوله تعالى: {لّيَجْزىَ الله} كأنَّه قيل إثرَ حكاية الأمور المذكورة: وقعَ ما وقعَ من الحوادث وردَّ الله الخ، وإمَّا على أرسلنَا وقد وسّط بينهما بيانُ كون ما نزَل بهم واقعةً طامَّة تحيَّرتْ بها العقولُ والأفهامُ وداهيةً تامَّةً تحاكت منها الرُّكبُ وزلَّت الأقدامُ. وتفصيلُ ما صدَر عن فريقَيْ أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النّعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحًا وجُنودًا لم ترَوها ورددنا بذلك الذين كفرُوا، والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الرَّوعة. وقولُه تعالى: {بغَيْظهمْ} حالٌ من الموصول أي مُلتبسين به وكذا قولُه تعالى: {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} بتداخلٍ أو تعاقبٍ أي غيرَ ظافرينَ بخير أو الثَّانية بيانٌ للأُولى أو استئنافٌ.
{وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بما ذُكر من إرسال الرّيح والجُنود {وَكَانَ الله قَويًّا} على إحداث كلّ ما يُريد {عَزيزًا} غالبًا على كلّ شيءٍ.
{وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} أي عاونُوا الأحزابَ المردودةَ {مّنْ أَهْل الكتاب} وهُم بنُو قريظةَ {من صَيَاصيهمْ} من حصُونهم، جمعُ صيصيَة وهي ما يُتحصَّن به، ولذلكَ يقالُ لقرن الثَّور والظَّبي وشوكة الدّيك {وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرعب} الخوفَ الشَّديدَ بحيثُ أسلمُوا أنفسَهم للقتل وأهليهم وأولادَهم للأسر حسبَما ينطقُ به قولُه تعالى: {فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا} من غير أنْ يكونَه من جهتهم حَراكٌ فضلًا عن المُخالفة والاستعصاء. رُوي أنَّ جبريلَ عليه السَّلامُ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صبيحةَ اللَّيلة التي انهزمَ فيها الأحزابُ ورجعَ المُسلمون إلى المدينة ووضعُوا السّلاحَ فقال: أتنزعْ لأمَتك والملائكةُ ما وضعُوا السّلاحَ، إنَّ الله يأمُرك أن تسيرَ إلى بني قُريظةَ وأنا عامدٌ إليهم. فأذَّن في النَّاس أنْ لا يصلُّوا العصرَ إلا ببني قُريظةَ فحاصرُوهم إحدى وعشرينَ أو خَمسًا وعشرين ليلةً حتَّى جهدَهم الحصارُ فقال لهم: «تنزلُون على حُكمي» فأبَوا فقالَ: «عَلى حُكم سعد بن معاذٍ» فرضُوا به فحكم سعدٌ بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم، فكبَّر النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقالَ: «لقد حكمتَ بحُكم الله من فوق سبعة أرقعةٍ». فقُتلَ منهم ستمائةُ مقاتلٍ وقيل: من ثمانمائةُ إلى تسعمائةُ وأُسر سبعمائةٌ. وقُرئ تأسُرونَ بضمّ السّين، كما قُرىء الرُّعبُ بضمّ العين، ولعلَّ تأخيرَ المفعول في الجُملة الثَّانية مع أنَّ مساقَ الكلام لتفصيله وتقسيمه كما في قوله تعالى: {فَفَريقًا كَذَّبْتُمْ وَفَريقًا تَقْتُلُونَ} وقوله تعالى: {فَريقًا كَذَّبُوا وَفَريقًا يَقْتُلُونَ} لمراعاة الفواصل.
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم} أي حصونَهم {وأموالهم} نقودَهم وأثاثَهم ومواشيهم. رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جعلَ عقارَهم للمهاجرينَ دونَ الأنصار فقالت الأنصارُ في ذلكَ فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إنَّكم في منازلكم» فقال عمرُ رضي الله عنه: أَمَا تُخمس كما خمَّستَ يومَ بدرٍ؟ فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا إنَّما جُعلتْ هذه لي طعمةً دونَ النَّاس» قالُوا: رضينَا بما صنعَ الله ورسولُه {وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا} أي أورثَكم في علمه وتقديره أرضًا لم تقبضُوها بعدَ كفارسَ والرُّوم وقيل: كلُّ أرضٍ تُفتح إلى يوم القيامة وقيل: خيبرُ {وَكَانَ الله على كُلّ شيء قَديرًا} فقد شاهدتُم بعضَ مقدوراته في إيراث الأراضي التي تسلَّمتموها فقيسُوا عليها ما عَدَاها. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذينَ كَفَرُوا بغَيْظهمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}.
{وَرَدَّ الله} الخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالًا بقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] وهو معطوف على {أَرْسَلْنَا} وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت بها العقول والإفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام، وتفصيل ما صدر عن فريق أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لاظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها ورددنا بذلك {الذين كَفَرُوا} والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وءدخال الروعة، وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأ به كونه معطوفًا فاعلى المقدر قبل: {لّيَجْزىَ الله} [الأحزاب: 24] كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى: {ليَجْزىَ} كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا اللهعليه أن جزاهم الله تعالى بصدقهم وردأ عدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى، والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روي غير واحد عن مجاهد.
والظاهر أنه عني المشركين واليهود الذين تحزبوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى أنه فسر ذلك بأبي سفيان وأصحابه، ولعله الأولى، وعلى القولين المراد رد الله الذين كفروا من نحل اجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم {بغَيْظهمْ} حال من الموصول لا من ضمير {كَفَرُوا} والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب، وقوله تعالى: {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} حال من ذاك أيضًا أو من ضمير {بغَيْظهمْ} أي غير ظافرين بخير أصلًا، وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى: {وَإنَّهُ لحُبّ الخير لَشَديدٌ} [العاديات: 8] والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم، وجوز أن تكون الجملة مستأنفة لبيان سبب غيظهم أو بدلًا {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} أي وقاهم سبحانه ذلك، و{كفى} هذه تتعدى لاثنين، وقيل: هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد.
والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى الله المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له وهذه الكفاية كانت كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليهم السلام، وقيل: بقتل على كرم الله تعالى وجهه عمرو بن عبد ود.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف {وَكَفَى الله المؤمنين القتال بَعْلى} وفي مجمع البيان هو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ولا يكاد يصح ذلك، والظاهر ما روي عن قتادة لمكان قوله تعالى: {إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم الله تعالى إياهم القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي بالسهام والمقارعة بالسيوف أو القتال الذي يقتضيه ذلك التحزب والاجتماع بحكم العادة.
وفي البحر ما هو ظاهر في أن المراد كفى الله المؤمنين مداومة القتال وعودته فإن قريشًا هزموا بقوة الله تعالى وعزته عز وجل وما غزوا المسلمين بعد ذلك وإلا فقد وقع قتال في الجملة وقتل من المشركين على ما روي عن ابن اسحق ثلاثة نفر من بني عبد الدار بن قصى منبه بن عثمان بن عبيد ابن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بنى مخزوم بن يقظة نوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل، ومن بنى عامر بن لؤي ثم من بنى مالك بن حسل عمرو بن عبد ود نازله علي كرم الله تعالى وجهه كما علمت فقتله.
وروي عن ابن شهاب أنه رضي الله تعالى عنه قتل يومئذ ابنه حسل أيضًا فيكون من قتل من المشركين أربعة واستشهد من المؤمنين بسبب ههذه الغزوة سعد بن معاذ وأنس بن أويس بن عتيك.
وعبد الله بن سهل وهم من بني عبد الأشهل والطفيل بن النعمان وثعلبة بن عثمة وهما من بني جشم بن الخزرج من بني سلمة وكعب بن زيد وهو من بني النجار ثم من بني دينار أصابه سهم غرب فقتله، قال ابن إسحاق: ولم يستشهد إلا هؤلاء الستة رضي الله تعالى عنهم {وَكَانَ الله قَويًّا} على إحداث كل ما يريد جل شأنه {عَزيزًا} غالبًا على كل شيء.
{وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} أي عاونوا الأحزاب المردودة {مّنْ أَهْل الكتاب} وهو بنو قريظة عند الجمهور، وعن الحسن أنهم بنو النضير وعلى الأول المعول {من صَيَاصيهمْ} أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به ويقال لقرن الثور والظباء ولشوكة الديك التي في رجله الكقرن الصغير، وتطلق الصياصي على الشوك الذي للنساجين ويتخذ من حديد قاله أبو عبيدة وأنشد لدريد بن الصمة الجشمي:
نظرت إليه والرماح تنوشه ** كوقع الصياصي في النسيج الممدد

وتطلق على الأصول أيضًا قال: أبو عبيدة إن العرب تقول: جذ الله تعالى صئصئة أي أصله.
{وَقَذَفَ في قُلُوبهمُ الرعب} أي الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: {فَريقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسرُونَ فَريقًا} أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلًا عن المخالفة والاستعصاء.
وفي البحر أن قدف الرعب سبب لإنزالهم ولكن قدم المسبب لما أن السرور بإنزالهم أكثرو الإخبار به أهم، وقدم مفعول {تَقْتُلُونَ} لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكان الاعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل الاعتناء هناك بالأسر أشد، ولو قيل: وفريقًا تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون: أو نحو ذلك، وقيل: قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل، وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلئلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل، وقيل: غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسر وقرأ ابن عامر والكسائي {الرعب} بضم العين وقرأ أبو حيوة {تاسرون} بضم السين، وقرأ اليماني {ياسرون} بياء الغيبة وقرأ ابن أنس عن ابن ذكوان بها فيه وفي يقتلون ولا يظهر لي وجه وجيه لتخصيص الاسم بصيغة الغيبة فتأمل، وتفصيل القصة على سبيل الاختصار أنه لما كانت صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أو ظهر يوم تلك الليلة على ما في بعض الروايات وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى داخل المدينة أتي جبريل عليه السلام معتجرًا بعمامة استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند زينب بنت جحش تغسل رأسه الشريف وقد غسلت شقه فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: عفا الله تعالى عنك ما وضعت الملائكة عليهم السلام السلاح بعد وما رجعت إلا الآن من طلب القوم وإن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وإني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم فأمر عليه الصلاة والسلام مؤذنًا فاذن في الناس من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وقدم علي بن طالب كرم الله تعالى وجهه برايته إليهم وابتدرها الناس فسار كرم الله تعالى وجهه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقيه عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث قال: لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله تعالى وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولًا وفي رواية فحاشا وكان عليه الصلاة والسلام قد مر بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إليهم فقال: هل مر بكم أحد قالوا: يا رسول الله قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما أتاهم صلى الله عليه وسلم نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنا وتلاحق الناس فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة» وقد شغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم فلما أتوا صلوها بعد العشاء فما عابهم الله تعالى بذلك في كتابه ولا عنفهم رسوله عليه الصلاة والسلام.
وحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمس عشرة وجهدهم الحصار وخافوا أشد الخوف وقد كان حي بن أخطب دخل معهم في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالًا ثلاثًا فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجالًا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلًا حتى يحكم الله تعالى بيننا وبينهم فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلًا نخشى عليه وأن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال: فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وأنه عسى أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال: فما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله عليه الصلاة والسلام إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح فعرف أنه قد خان الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب إلى المدينة وربط نفسه بجذع في المسجد حتى نزلت توبته رضي الله تعالى عنه ثم إنه عليه الصلاة والسلام ستنزلهم فتواثب الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وقد كانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعله في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين وقد كان رضي الله تعالى عنه قد أصيب يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله تعالى فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة، وروي أن بني قريظة هم اختاروا النزول على حكم سعد ورضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأتاه قومه وهو في المسجد فحملوه على حمار وقد وطأوا له بوسادة من ادم وكان رجلًا جسيمًا جميلًا ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين قال صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فأما المهاجرون من قريش فقالوا: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار فيقولون: قد عم بها عليه الصلاة والسلام المسلمين فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد: عليكم عهد الله تعالى وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم قال: وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبي الذراري والنساء فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحرث امرأة من بني النجار ثم خرج إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج إليهم بها إرسالًا وفيهم عدو الله تعالى حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمستكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسالًا يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى بحيي بن أخطب عدو الله تعالى وعليه حلة تفاحية قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله تعالى يخذل ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله تعالى كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه فقال فيه جبل بن جدال التغلبي:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد

حتى أبلغ النفس عذرها ** وقلقل يبغي العز كل مقلقل